قبل أن ننقل كلام الإمام
المقريزي في
الخطط , ونبين مزيته التاريخية والعلمية في المعرفة, نحاول أن نجعل القضية قضية مقارنة بشكل أشمل، سوف نأتي بدائرة معارف غربية حديثة دقيقة في النقل -تقريباً معتمدة- وننقل من كتاب مدرسي معروف ومنتشر بين أبنائنا, وأيضاً ننظر كلام الحافظ
المقريزي في هذه القضية.نبدأ بالحافظ
المقريزي رحمه الله، وهو تعرض عرضاً في الحقيقة -لأن كتاب
الخطط هو عن
مصر بالذات- للتواريخ التي كانت الأمم تؤرخ بها استطراداً من تاريخ القبط وغيره، فتحدث حديثاً عجيباً طويلاً نقل عمن قبله -يشمل من قبله- ونقل على اختلاف المناهج، من يرى الآماد البعيدة بدون تحفظ، ونقل من أدق الفقهاء وأشدهم جزماً في هذه المسألة وهو
ابن حزم رحمة الله تبارك وتعالى عليه، وأصل تأصيلاً عظيماً وقال:أولاً: ما ليس لدينا فيه علم من الكتاب والسنة فهو احتمال ونحن نورده.الأمر الثاني: عندما أورد التواريخ والآماد الطويلة التي نعرض جانباً منها، قال: لا ينبغي للعاقل أن يبادر بانتقاد أهلها -أو بشيء من ذلك- أنا بينت مأخذهم حتى لا يبادر العاقل إلى ذلك! احتراماً للرأي الآخر وإن كان آماداً بعيدة، لأنه ليس لدينا في ديننا ما ينفيه أو أما يجعله باطلاً بشكل قطعي، فينبغي أن يؤخذ في هذا الإطار؛ ليعلم من أين أخذه الذين أخذوه, ثم عندما انتقل إلى كلام
ابن حزم رحمه الله وختم به؛ فكأنما هو الخاتمة, وفعلاً هو كلام قيم وثمين, سنأتي عليه إن شاء الله تبارك وتعالى.ابتدأ الحافظ
المقريزي يتحدث عن البراهمة, والبراهمة لما قرأ الغربيون كلامهم دهشوا وذهلوا جداً جداً! كما في تاريخ القرن السادس عشر إلى العشرين؛ لكن نحن في التاريخ الإسلامي عادي جداً، هو نقل من كلام الكتب التي تَقَدّمته، ليس هناك أي مشكلة في أن يكون عندهم هذه الأعداد. مثلاً: نقل عن
البيروني و
المسعودي أيضاً بعض كلامه مطابقاً له، ونقل عن كثير؛ منهم من أشار إليه ومنهم من لم يشر إليه.على سبيل المثال: بعد أن ذكر كلامه في أزمنة وأحقاب كونية متوالية, وكل حقبة عشرة آلاف سنة مثلاً يقول: المدة العظمى على هذا ثلاثة آلاف ألف ألف ألف سنة وستمائة ألف ألف ألف سنة؛ تقدر بستمائة مليار سنة وثلاثة مليارات سنة!كلام غريب جداً! لا يمكن؛ فلذلك عقب عليه بقوله: ((
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ ))[هود:123], ثم قال: وإنما ذكرت هذا الشيء ليعلم المنصف أنهم لم يضعوه عبثاً, يعني: هم وضعوه افتراضاً أي: مبني على فرضية وليس هكذا ارتجالاً، نحن لا نقرّ هذه الفرضيات؛ لكن يقول: حتى نعلم ذلك ونعلم أن هذه الأمم وضعت هذا التاريخ والآماد البعيدة، البراهمة وكذلك قريباً منهم
الصين .يرجع إلى
أبي معشر الذي كان في الإسلام, ثم يقول: وزعم قوم من الفرس -على كلام
أبي معشر- أن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة -لاحظ من هذا الرقم إلى الرقم الآخر- وقال قوم: تسعة آلاف, وقال قوم: واحد وعشرون ألفاً, وقال قوم: ثمانية وسبعون ألفاً. وكلها أقوال بغير علم ولا دليل عليها ولا صحة لها، إلا أن مأخذهم فيها هو الأبراج والكواكب والطوالع، وسوف نشرح إن شاء الله في لقاء قادم.
عندما بيّن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله تبارك وتعالى عليه في تفسير سورة الإخلاص، كيف وقع الشرك في بني آدم؟! وقع الشرك كما سبق في قوم نوح لما صورهم؛ لكن كيف وقع الشرك في قوم إبراهيم عليه السلام! ولماذا قصة إبراهيم عليه السلام في سورة الأنعام جاء فيها ذكر الكواكب وليس الأصنام؟! مع أننا نجد أن إبراهيم عليه السلام دعا ربه: (( وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ ))[إبراهيم:35]؛ فهنا اختلط على كثير من الناس هل إبراهيم عليه السلام دعا قومه إلى أن يتركوا عبادة الكواكب أو عبادة الأصنام؟!شيخ الإسلام يقرر أن هذه الأصنام أو الهياكل مبنية على تلك، يعني: على شكلها كنماذج لها أو كوسائط لها؛ أي: للكواكب العليا التي في السماء؛ فعُبدت الأصنام وعبدت الحجارة؛ لتكون رموزاً للمعبودات الأكبر عندهم، وهي الكواكب التي تتحكم في الكون.ومن الكواكب ومن أعدادها ومن منازلها وطوالعها ودرجاتها حاولوا أن يكتشفوا التنجيم, حقائق الكون, الأحداث، ومن ذلك عمر الدنيا بناء على عدد هذه الكواكب أو مطالعها أو ما أشبه ذلك.إلى أن يقول: وقال قوم: كانت المدة من آدم إلى الطوفان ألفين وثمانمائة سنة .. إلخ.والآن رجع إلى كلام أهل الكتاب اليهود و النصارى ، ثم بعد أن أفاض في هذا الكلام نقولات طويلة لا تهمنا، يهمنا في الأخير أنه ختم بالنقل عن الإمام الجليل ابن حزم رحمه الله, وهو الذي من كلامه في الفصل تسرب إلى أوروبا كما في رسالة سبينوزا رسالة في اللاهوت والسياسة وغيره، النقد التاريخي أول ما عرفت أوروبا النقد التاريخي للعهد القديم.فيقول: قال الفقيه الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم : وأما اختلاف الناس في التاريخ فإن اليهود يقولون: أربعة آلاف سنة، و النصارى يقولون: الدنيا خمسة آلاف سنة، وأما نحن فلا نقطع على علم عدد معروف عندنا - يعني: نحن المسلمين لا نقطع في هذا- بل نقطع أن للدنيا أمداً لا يعلمه إلا الله تعالى، قال الله تعالى: (( مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ ))[الكهف:51], وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أنتم في الأمم قبلكم إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض), وهذه نسبة من تدبرها وعرف مقدارها ومقدار عدد أهل الإسلام ونسبة ما في أيديهم من معمور الأرض وأنه الأكثر، علم أن للدنيا أمداً لا يعلمه إلا الله تعالى.يقول: -الكلام لا يزال للإمام ابن حزم- وكذلك قوله عليه السلام: (بُعثت أنا والساعة كهاتين وضم أصبعيه المقدستين السبابة والوسطى), وقد جاء النص بأن الساعة لا يعلم متى تكون إلا الله تعالى لا أحد سواه، فصحّ أنه صلى الله عليه وسلم إنما عنى شدة القرب لا فضل السبابة على السباحة، إذ لو أراد ذلك لأخذت النسبة ... إلى آخره, يعني: لو كان يريد ذلك فإن الحديث الذي قبله لا ينطبق, وهو حديث كالشعرة البيضاء في الثور الأسود. قال ابن حزم رحمه الله: وله صلى الله عليه وسلم منذ بعث أربعمائة عام ونيّف -في أيام ابن حزم رحمه الله- والله تعالى أعلم بما بقي من الدنيا؛ فإذا كان هذا العدد العظيم لا نسبة له عندما سلف لقلته وتفاهته - التي هي أربعمائة سنة أو ثمانمائة عند البقاعي أو نحن الآن نقول: ألف وأربعمائة وستة وعشرون وهكذا من بعدنا, يقول: إذا كان هذا لقلته وتفاهته إلى ما مضى فنحن فعلاً كالشعرة في الثور أو الرقمة في ذراع الحمار.قال: وقد رأيت بخط الأمير أبي محمد عبد الله بن الناصر قال: حدثني محمد بن معاوية القرشي أنه رأى بـ الهند بلداً له اثنتان وسبعون ألف سنة، وقد وجد محمود بن سبكتكين -الذي فتح الهند الفاتح العظيم- مدينة في الهند يؤرخون بأربعمائة ألف سنة, قال أبو محمد : إلا أن لكل ذلك أولاً ولا بد ونهاية، لم يكن شيء من العالم موجوداً قبله - يعني: مهما قلنا بتقادم الأزمان فإن الله تعالى خلق هذا الكون وابتدأ خلقه ولم يكن موجوداً قبل أن يخلقه تبارك وتعالى, يعني: يكذب رحمه الله الملاحدة ويكذب المفترين.قال: ولله الأمر من قبل ومن بعد والله تعالى أعلم.إذاً: نجد أحقاباً وآماداً بعيدة، ونجد موقفاً واضحاً للعلماء من هذه الأحقاب والآماد، ويجعلون نقاط ارتباط ثابتة بالأحاديث الصحيحة ليصلوا إلى نظر تقريبي في هذا الموضوع، فهذا الشأن العام في التاريخ الإسلامي قبل ظهور العلم الحديث.ما الذي نجده في العلم الحديث؟ هذا الذي نريد أن نمثل به, كما قلنا دائرة معارف باللغة الانجليزية معروفة، وضّحَت ليس فقط تاريخ الإنسان, وتاريخ الخليقة بشكل مختصر -كما يزعمون-، أول ما يبتدئ من اليسار إلى اليمين 3,05 بليون سنة, -يعني: مليار- سابقة وهي أول الحياة البدائية في نظرهم كما تقول نظرية التطور, ثم يتطور ويتدرج كما تلاحظون إلى أن يصبح آخر رقم عشرة آلاف سنة!لاحظ النسبة الهائلة مليارات هنا وهنا فقط عشرة آلاف سنة! وهنا نجد صورة البشر بشكلهم الحقيقي الحالي ولكنهم عراة، -رجل وامرأة عراة ويشوون على النار- كما يظنون أن هذا هو بداية الإنسانية؛ عارية وهمجية واكتشاف النار وبداية الحضارة -يعني: نوعاً ما عندهم اكتشاف النار- فقط عشرة آلاف سنة! هذا الأمد العلم الغربي يراه كأنه حقيقة أو أشبه ما يكون بالحقيقة، ونحن لا يمكن أن ننكر أن هناك آليات لهذا؛ لكن هل بهذا الرقم؟ هل بهذه الدقة؟ طبعاً الله أعلم تختلف فيه الآراء، وهي عبارة عن الساعات التي يحسبون بها ومن أهمها الكربون, لعله في حلقة قادمة إن شاء الله يأتي الحديث عن كيف يحسب عمر الصخور أو عمر العظام أو ما أشبه ذلك من خلال الكربون بالذات.نرجع إلى المثال الثالث وهو كتاب مدرسي بسيط، كتاب علم الأرض للصف الثالث الثانوي قسم العلوم الطبيعية الذي تقرره وزارة التربية والتعليم في المملكة العربية السعودية ، فماذا نجد؟!نجده يتكلم -ومن خلال الاستدلال بالكربون المشع وغيره من الساعات النووية- أن عمر الأرض يزيد عن أربعة آلاف وستمائة مليون سنة، يعني: أربعة مليارات وستمائة، -وهو ليس كما في دائرة المعارف هنا- طبعاً هو ليس عمر الأرض؛ لكن يفترضون أن الأرض قبل بداية الحياة.هذه النسب كما نراها التفاوت بينها كبير، وليست القضية في التفاوت, بل القضية هي قضية أين المصدر الحق؟